القدوة فى الدعوة والتربية هى أفعل الوسائل جميعا، وأقربها إلى النجاح، وإن مبادئ الاسلام تحظى بالقبول حينما يمتثلها الداعى قبل المدعويين، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة حية لتعاليم الإسلام السامية فى كل شيئ، رأى الناس فيه الإسلام رأى العين، فهو أعظم قدوة فى تاريخ البشرية كلها، ولقد تحركت نفوس الناس بقدر وسعها نحو التطبيق والعمل، يقتبسون من نوره ويتعلمون من آدابه.
ومن أبرز الأمثلة على القدوة فى شخص رسولنا صلى الله عليه وسلم ما كان عليه من أخلاق قبل البعثة، حيث كان يعرف قبل الرسالة بالصادق الأمين، وما جرب قومه عليه كذبا قط، ولقد شهدت له زوجته وهى ألصق الناس به، وأكثرهم وقوفا على أفعاله فى بيته، بأنه صلى الله عليه وسلم: كان خلقه القران، وكان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشى على الارض.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر بشئ أو نادى به فعله أولا قبل الناس، ليتأسوا به ويعملو كما عمل، وفى السيرة النبوية شواهد على ذلك كثيرة، منها:
ـ أنه لما تم صلح الحديبية بين المسلمين وقريش ونصوا فى بنودها أن يرجع المسلمون هذا العام بلا أداء العمرة ويعودوا فى العام القادم، أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا الهدى ويتحللوا من إحرامهم فقال: قوموا فانحروا ثم احلقوا فتكاسل الصحابة حيث إن الشروط كانت جائرة على المسلمين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على السيدة أم سلمة مغضبا، وأخبرها بتخلف الناس عن أمره، فأشارت عليه صلى الله عليه وسلم بأن يسرع فى التنفيذ أمامهم، فقام صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، ونحر هديه، وتسابق الصحابة فى التطبيق حتى كاد بعضهم يقتل بعضا من شدة الزحام.
ـ ومن أبرز الأمثلة فى السيرة النبوية الشريفة أيضاً على كونه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بنفسه قبل الناس ليقتدى الناس به، موقفه فى بناء المسجد، حيث كان يشارك الصحابة فى الحفر ونقل التراب، ورفع البناء، وكانوا يرتكزون أثناء عملهم بقولهم: لئن قعدنا والرسول يعمل لذاك منا العمل المضلل.
ـ وشاركهم صلى الله عليه وسلم فى حفر الخندق حول المدينة، عندما سمع بقدوم الأحزاب لإستئصال شأفة المسلمين فى المدينة، وكان له قسم مثلهم يباشر الحفر معهم بيده، ويحمل التراب على كتفه، واذا استصعب عليهم مشكلة سارعوا إليه صلى الله عليه وسلم يلتمسون منه حلا لها بمعوله، فكان هذا كله دافعا للصحابة على العمل، ومقويا لهممهم وعزائمهم، فلم يكسلوا أو يتوانوا، حيث يرون قائدهم ورسولهم معهم فى خندق واحد، يعمل كما يعملون، ويأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، وينام على مثل ما ينامون، وما زادهم ذلك إلا إيمانا وتسليما.
قال الله تعالى: {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا} [الاحزاب:21].
وهذه الاية الكريمة أصل كبير فى التأس برسول الله صلى الله عليه وسلم فى أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب، فى صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وإنتظاره الفرج من ربه عز وجل صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ولهذا قال الله تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا وإضطربوا فى أمرهم يوم الاحزاب {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة}، أى هلا إقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم -تفسير ابن كثير 3/406 ط/دار القلم /بيروت لبنان الثانية.
¤ شهادة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولقد شهد الله سبحانه وتعالى له بالاخلاق العظيمة فى كل الأمور فى حياته صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{وانك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]، من أجل ذلك إرتضاه الله سبحانه وتعالى للبشرية كلها بأنه القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة فى كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال.
قال الامام الشاطبى: وانما كان صلى الله عليه وسلم خلقه القران لأنه حكم الوحى على نفسه حتى صار فى عمله وعلمه على وفقه، فكان للوحى موافقا قائلا مذعنا ملبيا واقفا عند حكمه.
وهذه الخاصة كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به، إذ قد جاهر بالامر وهو مؤتمر، وبالنهى وهو منته، وبالوعظ وهو متعظ، وبالتخويف وهو أول الخائفين، وبالترجية وهو سائق دابة الراجين، وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه، ودلالة له على الصراط المستقيم الذى سار عليه صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار عبد الله حقا وهو أشرف إسم تسمى به العباد، قال الله تعالى: {سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} [الإسراء:1]، وقال عز وجل أيضا: {تبارك الذى نزل الفرقان على عبده} [الفرقان:1]، وقال ايضا: {وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة:23]، وما أشبه ذلك من الايات التى وقع مدحه فيها بصفة العبودية -الاعتصام للشاطبى 2/339 /340 أول الفصل الرابع.
إن العامل الأكبر فى إنتشار الإسلام فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح إنما هو القدوة الحسنة والأخلاق الكريمة التى لمسها المدعون فى هذا الجيل الفذ من المسلمين، سواء كانت هذه الاخلاق فى مجال التجارة من البيع والشراء، مثل الصدق والأمانة أو فى مجال الحروب والمعارك، وفى عرض الإسلام عليهم وتخييرهم بين الإسلام أو الجزية أو المعركة، أو فى حسن معاملة الأسرى، أو عدم قتل النساء والاطفال والشيوخ والرهبان، هذه الأخلاق وغيرها دفعت هؤلاء الناس يفكرون فى هذا الدين الجديد الذى يحمله هؤلاء، وغالبا كان ينتهى بهم المطاف إلى الدخول فى هذا الدين وحب تعاليمه، ومؤاخاة المسلمين الفاتحين فى الدين والعقيدة.
فالقدوة هى أسلوب عملى فى الدعوة الإسلامية، وان شئت فقل هى الدعوة الصامتة التى تفتح القلوب والعقول، وتأثيرها فى النفوس أشد من تأثير الخطب والدروس.
¤ من فوائد القدوة فى مجال الدعوة:
ان القدوة الصالحة فى مجال الدعوة لها مزايا كثيرة وفوائد متعددة منها: أنها أوقع فى النفس وأعون على الفهم والحفظ، وأدعى إلى الإقتداء والتأسى من التعليم بالقول أو البيان، وأن التعليم بالفعل والعمل هو الاسلوب الفطرى للتعليم. -الرسول المعلم وأساليبه فى التعليم الشيخ/عبد الفتاح أبو غدة صـ65ط/دار البشائر الاسلامية بيروت لبنان ط/الثالثة1417 هه1997م.
يقول ا/محمد قطب: لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم عجيبة من عجائب الكون، وطاقة كونية صادرة من الله عز وجل، معجزة كآيات الله عظمات لا تحد، شخوص كثيرة مجتمعة فى شخص واحد، كل واحد منها متكامل فى ذاته كأنه متخصص فى جانبه منقطع له، ثم يجتمع الشخوص كلها -على تكامل كل منها- فتتكامل على نطاق أوسع وتناسق فى محيطها الشامل وتتألف منها نفس واحدة، تجمع كل النفوس وتجمعها فى توازن واتساق. -منهج التربية الإسلامية محمد قطب ص2/221 ط دار دمشق الثانية.منهج التربية ص2/223.
إن الدعوة الاسلامية فى العصر الحاضر تحتاج الى دعاة متميزين فى العلم والأخلاق والعمل حيث إن المهمة شاقة، والعبء ثقيل، والطريق طويل، والخصوم أكثر من الانصار، فيستشعر صعوبة المهمة التى يقوم بها، والناس يضعونه تحت المجهر فى كل تصرفاته، فلا بد له ان يستعين بالله -عزو جل- حتى يعينه فى أن ينتصر على نفسه، فيكون داعية بمظهره ومخبره، وحاله ومقاله، وحركته وسكونه، وجمال طلعته، وحسن منطقه، مقتديا بخاتم النبيين، وإمام المرسلين، ورحمة الله للعالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الكاتب: د: أحمد عبد الهادى.
المصدر: موقع منارات.